تجعلك مهنة الصيدلي تقابل أنواعاً شتى من البشر.. منهم من يدفعك للدهشة ومنهم من يصيبك بالاستفزاز، ومنهم من تحمد الله على ما أنت فيه من نعم لا تستشعرها.. تعوّدت بحكم الممارسة أنه قد تواجهك طلبات غريبة من الزبائن والمرضى لا تمتّ لعلم الصيدلة بصلة أو الدواء بصِلَة!..
كأن يطلب أحد منك أن تصف له عنواناً قريباً، فتخرج معه للشارع وتهرع لوصفه.. أو أن يطلب البعض طلبات غريبة كشراء أقلام أو كروت شحن للمحمول -علما بأن هناك صيدليات تبيعها بالفعل للأسف!- أو أطفال يطلبون منك بالونات!!
كل ذلك تعوّدته وصرت آلفه إلى حد كبير.. لكن في ذلك اليوم حدث ما لم أكن أعددت عدتي له! كنت قد صادفت البعض من البسطاء الذين يأتون بقصاصة ورق ويطلبون قراءتها حيث إنهم أميون.. أو يطلبون كتابة شيء ما لهم، وكنت أشعر بسعادة وأنا أقدّم لهم تلك المساعدة البسيطة..
ذات صباح أتت زوجة أحد حارسي العقارات، والتي تتردد على الصيدلية إما لتلبية طلبات ساكني العقار أو طلباتها الشخصية، وبعد التحية والسؤال عن أبنائها الصغار وجدتها مترددة، وتدور حول الموضوع، فسهّلت عليها الطريق، وطلبت منها أن تدلي بدلوها؛ حيث ظننت أنها استشارة طبية ما..
لكن فور أن نطقت بما تريد ظللت أضحك لفترة طويلة! فكنت قد نسيت تماما أن اليوم يصادف عيد الحب رُغم مشاهدتي لكل معالم الطريق وقد دُهِنت بالأحمر، وكمّ الدباديب والورود الحمراء بكل المحلات، وإذ بها تُخرج لي كارتاً مرسوم عليه قلب أحمر يخترقه سهمان كرمز أبدي ساذج للحب، وتطلب مني أن أكتب خطاباً رومانسياً غرامياً لزوجها؛ حيث تعجز عن الكتابة!!
وبعد أت تغلبت على المفاجأة والحرج الذي أخفيته بضحكاتي شرعت في الكتابة كما أرادت!..
المشكلة الأولى كانت في اسم زوجها حيث إنها أملتني اسمه الذي أعرفه ويعرفه الجميع، ثم عادت وتداركت الأمر موضحة لي أن هذا ليس اسمه الحقيقي!. فعادة هذه الفئة أن يحمل الشخص الواحد اسماً في البطاقة واسماً آخر يناديه الناس به، ولا أعلم حتى الآن السبب في ذلك!.. وطلبت مني تغييره، فحاولت لكن تراجعت حتى لا أشوّه جماليات الكارت!.. تغاضت عن هذه النقطة، وحين بدأت أسألها عما تريد كتابته فغرت فاها بدهشة شديدة موضحة لي أنها كانت تتوقع مني أن أكتب دون الرجوع لها، وكأن الأمر يتعلق بكتابة عريضة طلب، وليس بأمر شديد الخصوصية كخطاب غرامي لزوجها!!
أبدت عجزها عن إيجاد أي عبارة تكتبها، وطلبت أن أتولى ذلك الأمر عنها، مرددة في نهاية كل جملة: "إنت دكتورة بقى ومتعلمة"!..
وهنا ظهرت المشكلة الثانية! اكتشفت أني غير قادرة على كتابة أي عبارة غرامية، ولا حتى قادرة على التفكير بجملة على الأقل!..
شعرت بحرارة شديدة، وأوشكت الدماء أن تقفز من وجنتيّ، وأنا ممسكة بالقلم أستجديه أن يخط أي جملة للحفاظ على ماء وجهي أمامها! واندهشت لذلك كثيراً؛ فرغم كل الروايات والأفلام الغارقة في الرومانسية التي شاهدتها، ورغم كل ما كتبت من مقالات وقصص، أجد نفسي عاجزة عن اختراع أي عبارة غرام!
وزاد الأمر عسراً وجود مراقب يتفحصني وتنتظر مني إبداعاً فنياً لم يسبق له مثيل في كلام الغرام!..
وجال بذهني "يوسف وهبي" في فيلم إشاعة حب حين كان يكتب خطاباً ملتهباً منتحلاً شخصية "هند رستم" ويذيّله بقبلاته الساخنة، بينما أنا أعجز عن خط أي حرف!.. حاولت الابتعاد كثيراً عن الأكليشيهات المعتادة المبتذلة التي أراها محفورة إما على مقاعد المواصلات أو مخطوطة على الجدران أو العملات الورقية التي دائما على نفس الشاكلة من: "هند ومدحت للأبد".. "حبيبي أنت الروح والحب والنيل والهرم والسماء و.."!!
وفي النهاية أمام ازدياد نظراتها المندهشة أسرعت في كتابته، وأنا لا أتصور أني أعجز عن خلق أي عبارة أمام ممتحن بسيط مثلها.. وأنهيته سريعا وأمليته عليها ليزداد الأمر حرجاً؛ حيث لم يعجبها ما كتبته بتاتا البتة!.. فكان نصه: "زوجي العزيز.. أتمنى لك دوام النجاح والسعادة.. وفّقك الله".
وإذ بها تهتف: "إيه ده يا دكتورة؟!.. حبّشيه شوية!!" وهكذا أمضيت محاولات أخرى غارقة في الخجل حتى قمت بتحبيشه كما أرادت؛ حتى شعرت أن الدماء ستنفجر من وجنتيّ!.. وبعد رحيلها غير راضية تماماً عن "التحبيش الغرامي" الفقير في نظرها استرجعت ما كتبته أول الأمر فانطلقت في الضحك!..
فهذا كان خطاباً يليق بمخاطبة رئيسك في العمل أو عضو المجلس المحلي للمدينة وليس زوجك أبداً!.. والغريب والمثير للغيظ أن الوحي قد أتى بعد رحيلها بعشرات العبارات الرومانسية الرقيقة!.. وكأنه كان يخشى أن يظهر علانية أمام أحد وأمام رقيب.
أخذت بعدها أتأمل المارة حيث بدأت مراسم الاحتفال بعيد الحب في الازدهار مع ساعات المغيب، وأمضيت اليوم كله أتساءل عن عدد المحبّين الذين جعلوا سواهم يكتب لهم خطابات غرام "متحبشة" في هذا اليوم!